ركب سيارة الليموزين بعد أن حصل على رخصة القيادة قبل يومين ، لقد اجتاز الاختبار بسهولة بعد تغرّبه من بلاده منذ أسابيع ، وهاهو يمارس عمله لثاني يوم مرّةً أخرى ، أدار المفتاح ، وأمال بتحّكم المبرّد الهوائي ، ما أبرد المكيّف داخل سيارة يلفها الجوّ الحار!
اجتاز الشوارع باكراً ، لم تزدحم الشوارع بعد ، فمازال الوقت باكراً ، لمح (علوي) شاباً وسيماً ، طويل القامة ، نحيل الجسم ، يتوسّم فيه الرائي علامات الصلاح والخير ، يحتضن في ذراعه اليسرى دفتراً ملوّناً .
رفع الشاب يده النحيلة مؤشّراً بيده ، فتوقّف علوي بمحاذاته ، منزلاً زجاج باب الراكب بكبسة زرٍّ ، تحدّث مع الشاب الذي أخبره أنه يريد كليّة الطب :
- عشرة ريالات!
فتح الشاب باب الراكب على الفور ! وركب على المقعد قائلاً تطفو على شفتيه ابتسامة رقيقة :
- لم أعتقد أنك ستطلب هذا المبلغ !!
- لماذا؟!
- توقّعت أنك ستطلب ضعف هذا المبلغ!!
- لا نريد أن نرهق الطلاب بدفع تكاليفٍ أكثر !
اندهش الطالب من جواب السائق ! فقال:
- يبدو أنك جديد في المهنة؟!
التفت السائق إلى الطالب قبل أن يجاوب :
- أجل !
- وماهي انطباعاتك عن عاصمتنا المزدحمة ؟!
- الازدحام شيء عادي هنا ، ولا يقارن بازدحام عاصمتنا!! ليتك سألت انطباعي عن أهل العاصمة!!!
التفت الطالب التفاته قويّة متسائلاً :
- ماذا تقصد؟!
أخرج السائق علبة السجائر ، ومدّ سيجارة إلى الطالب ، فرفض الطالب أخذها شاكراً :
- ألا تدخّن ؟!
تساءل السائق .
فقال الطالب متذمّراً :
- لا . لأن الدخّان مضرّ بالصحّة ، وأرجو ألا تدخّن أمامي إن سمحت ، لأن الجالس مع المدخّن يصيبه من الضرر ضعف مايصب المدخّن نفسه!
- ومن أخبرك بهذا؟!
- إنني أدرس الطب!
فاستدرك علوي :
- آه لقد نسيت أن مشوارك إلى كليّة الطب!!
استذكر الطالب قائلاً :
- آها .. لم تقل لي انطباعك عن أهل العاصمة؟!
- نعم .. نعم ..
أدخل السائق سيجارته بين أحضان العلبة ، وتنهّد تنهيدة خفيفة ثم أعقب:
- لقد أوصلت شخصاً بالأمس ...
- نعم ، ثم ؟
- كان يريد سجن النساء! و أرجو ألا تتعجب فقد كنت لا أعتقد بوجود مكانٍ مخصّص للسجن مطلقاً في بلادكم ، فكيف بسجنٍ للنساء!!
- لماذا لم تعتقد بوجود مكانٍ للسجن؟!
توقّفت سيارة الليموزين عند الإشارة المزدحمة ، ويبدو أن الزحمة بدأت للتو ، فخفض السائق صوت المذياع الذي كان مرتفعاً قليلا والتفت إلى الطالب فقال:
- لأنكم أحفاد الصحابة!! وقد أعتقدت أنكم معصومون !!!
قهقه الطالب قهقهة عالية حتى سمعه خلف الزجاج من في السيارة المجاورة ، واستمر يقهقه حتى أضاءت الإشارة الخضراء ، وتحرّكت السيارة حتى توقّف السائق أمام كليّة الطب ، والطالب مازال يقهقه حتى كاد لا يسكت!
وقد كان السائق ينظر إلى الطالب مبتسماً ابتسامة خجل من نفسه! فقال الطالب:
- هل تنتظرني قليلاً ريثما أعود؟! أريد أن أأخذ جدول الإمتحانات ثم أعود على الفور ، فتوصلني إلى البيت وأدفع لك أجرتك هناك؟
هزّ السائق رأسه موافقاً ، ثم انتظر ساعة كاملة ولم يحظر الطالب!
جاءه أحد الطلاب فدق زجاج نافذة السيارة سائلاً السائق :
- أخي إنني أراك تنتظر منذ ساعة .. من تنتظر ؟!
فأخبره السائق أنه ينتظر طالباً في كلية الطب كان قد أوصله ، ذكر له أنه سيأخذ جدول الإمتحانات ثم يوصله إلى المنزل ويدفع له أجرته هناك !
- ومن قال لك أنه سيأتي؟!!
- هو أخبرني بذلك! إنه طالب في كلية الطب لقد رأيت بطاقته بنفسي والأطباء لا يكذبون ، إنهم أناسٌ شرفاء ، ففي بلادي حتى ضابط المرور لا يخالف الطب بل إنه يحترم الطبيب ويفسح له الطريق! لأنه إنسان بمعنى الكلمة ويؤدي رسالة إنسانية!! إنه يخدم الإنسان ويتحمّل قذارته واتساخه ، ولا يتذمّر! فهل يوجد إنسان يفعل ذلك مثل الطبيب!!!
- يبدو أنك جديد في هذه المهنة ياأخي ؟!
- أجل .. أجل .. أجل!!
- إن الإمتحانات بعد شهرين من الآن ، والطالب لن يأتي ولن يدفع لك !!
تغيّرت ملامح السائق من هول الفاجعة ، ثم أرجع سيّارته إلى الخلف وهو يتمتم:
- يالها من عاصمة!