قبل عشرين عاماً أو أكثر، وعندما كنا نسكن بيتنا القديم، كانت تجاورنا عائلة باكستانية نصرانية، لا أتذكر شيئاً عن هذه العائلة سوى ما أخبرتني به أمي، كانت عائلة صغيرة، أم وطفل، ولا أتذكر إن كان الزوج حياً ويعيش معهم أم لا.
أخبرتني أمي عن قصة طفل العائلة الصغير، حيث كانت أمه تبالغ في حمايته، كلما طلب الماء قامت بتسخينه أولاً لكي تقتل الجراثيم ثم تنتظر حتى يبرد فتعطيه للطفل، وهكذا كان حالهم مع كل شيء آخر، حماية مبالغ فيها ضد أي ضرر قد يصيبه، حتى أصيب في يوم ما بالحمى وكادت أن تفتك به، والسبب أن مناعته ضد الأمراض ضعيفة، الحماية التي توفرها الأم لطفلها كادت أن تتسبب في موته.
يحاول البعض حماية الناس من أفكار وآراء قد تكون مضرة، لكن هذه الحماية لا تختلف كثيراً عن حال الأم مع طفلها، فهي حماية مضرة قد تفتك بعقل الإنسان وتقتله، فبدلاً من المواجهة والتوعية والتعليم نجد أن الحكومات والأفراد يمارسون الرقابة السلبية التي تضر أكثر مما تنفع.
لنأخذ مثالاً، أتتذكرون فيلم آلام المسيح؟ ثارت ضجة ضد هذا الفيلم حول العالم، وشخصياً كان رأيي فيه أنه يجب أن يمنع، لا للأفكار التي يعرضها، بل لأنه جسد نبياً وهذا أمر غير مقبول في شرعنا، أما قصة الفيلم فهي معروفة، وقد ذكر الله تعالى قول النصارى بأنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم، وقصة الصلب تناقش في مئات الكتب، فلا مشكلة في القصة نفسها.
عرض الفيلم لدينا في الإمارات وبدأت أسمع من أصدقائي كيف أن بعض الناس صدقوا رواية الفيلم، وهم مسلمون يقرأون في كتاب الله قوله: “وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم”.
المشكلة هنا أن البعض يلقي باللوم كله على الفيلم ومن صنعه ومن سمح بعرضه، بينما المفروض أن يكون المشاهد على قدر كافي من الوعي عندما يشاهد مثل هذه الأفلام، من المفترض أن يقرأ عن قصة الفيلم ويعرف رأي الشرع، لكن الناس لا يفعلون ذلك، بعض الشباب ممن تأثر بالفيلم لا يعرف الكتب إلا في المدرسة أو الجامعة، ولا يعرف في الشبكة سوى المواقع السيئة، الثقافة لديه هي “سوالف” الشباب في المقهى، والصحافة هي ملحق الرياضة فقط، أما الدين فهو شيء لا يعرفون عنه سوى ما تعلموه في الابتدائية، ولعله لم يدخل مسجداً منذ سنوات طويلة، وبعد ذلك يحرص على أن يشاهد أفلاماً أكبر من مستواه العقلي والفكري ويتأثر بها، فعلينا ألا نلقي باللوم فقط على الفيلم.
الآن سيأتينا فيلم شيفرة دافنتشي المبني على رواية شهيرة بنفس الاسم، شخصياً لم أقرأ الرواية لأنها تنافي ما نعرفه عن المسيح، وقد منعت الرواية في لبنان والأردن لأنها تسيء إلى المسيح، وسيعرض الفيلم لدينا أو بدأ عرضه، المشكلة الآن أن الرقابة لن تجدي فمهما طالب البعض بمنع الفيلم أو الرواية سيتمكن الكثير من الناس من الوصول لهما عن طريق الشبكة، لا بل هناك آلاف النسخ تتداول عبر الشبكة وبأساليب مختلفة.
إن كنا نريد حماية الناس من أفكار تحويها الكتب والأفلام فالمنع والحجب ليس حلاً، لأنه يبقي الناس عرضة للتأثير، والمنع يزيد من رغبة البعض في الممنوع، فكما يقال: كل ممنوع مرغوب، أليس من الأفضل أن تناقش الأفكار علناً ويقول أهل الشرع والفكر آرائهم حول هذا الفيلم أو ذاك الكتاب؟ أليس من الأفضل أن يجلس الأب مع أبناءه ويشرح لهم لماذا حجب الكثير من القنوات الفضائية بدلاً من أن يفرض عليهم هذا الحجب بالقوة؟ أليس من الأفضل أن تسمح العائلة لأبناءها باستخدام الشبكة أمام الجميع بدلاً من أن يمنعوهم تماماً؟
الحماية السلبية المتمثلة في منع الأفكار والآراء بدون نقاشها وتوعية الناس حولها ضررها أكبر من نفعها خصوصاً في هذا الزمن، الإنسان في الماضي كان لا يستطيع أن يحصل على كتاب ممنوع إلا بصعوبة شديدة، الآن الكتاب الممنوع على بعد بضع نقرات من الفأرة، فإن لم يستطع الكتاب دخول البلاد من منافذ الحدود يستطيع أن يدخلها من منافذ الشبكة العالمية.
الأب الذي يمنع أبناءه بالقوة والحزم من قراءة بعض الكتب أو الاتصال بالشبكة أو استخدام الهواتف النقالة قد يستطيع فعل ذلك في المنزل، أما خارج المنزل وعندما تغيب رقابته عن أبناءه فلن يتمكن من معرفة ما إذا ذهب ابنه إلى مقهى الإنترنت وشاهد ما يريد بعيداً عن الرقابة، بل لعله يجد التشجيع من أصدقاء السوء لكي يدخل إلى مواقع سيئة ويدمن على زيارتها لتأكل عقله وروحه.
نحن بحاجة في مجتمعاتنا إلى نبذ عقدة الخوف من الأفكار والقضايا ونقاشها لكي نستطيع أن نعرف ماذا يجب علينا فعله حيال تلك الأفكار والقضايا، أما المنع والتكتم فلن يعالج مشكلة، بل أجده أكثر ضرراً لأن الناس سيواجهون الكثير من الأفكار وسيتعرضون للاختبار فإما أن يختاروا هذا الطريق أو ذاك، فكيف نضمن أن معظم الناس سيختارون الطريق الصحيح في حين أننا لم نتحدث أبداً عن الطريق الصحيح؟